فصل: مطلب فِي فَضْلِ النَّفَقَةِ عَلَى الزَّوْجَاتِ وَالْعِيَالِ وَلَا سِيَّمَا الْبَنَاتِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: غذاء الألباب لشرح منظومة الآداب **


 مطلب النِّكَاحُ

مَأْمُورٌ بِهِ شَرْعًا مُسْتَحْسَنٌ وَضْعًا وَطَبْعًا وَيَعْتَرِيهِ أَحْكَامٌ أَرْبَعَةٌ ‏(‏تَنْبِيهَاتٌ‏:‏ الْأَوَّلُ‏)‏ النِّكَاحُ مَأْمُورٌ بِهِ شَرْعًا ‏,‏ مُسْتَحْسَنٌ وَضْعًا وَطَبْعًا ‏,‏ فَإِنَّ بِهِ بَقَاءَ النَّسْلِ ‏,‏ وَعَمَارَ الدُّنْيَا ‏,‏ وَعِبَادَةَ اللَّهِ ‏,‏ وَالْقِيَامَ بِالْأَحْكَامِ ‏,‏ وَذِكْرَ اللَّهِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَالتَّوْحِيدِ وَالصِّيَامِ ‏.‏

وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ جَلَّ شَأْنُهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ الْقَدِيمِ ‏,‏ وَحَضَّ عَلَيْهِ رَسُولُهُ الْكَرِيمُ ‏.‏

قَالَ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ الْعَظِيمِ‏:‏ ‏{‏وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن

يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ‏}‏‏.‏

ثُمَّ إنَّهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ يَعْتَرِيهِ مِنْ الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ أَرْبَعَةٌ ‏,‏ فَيُسَنُّ لِذِي شَهْوَةٍ وَلَا يَخَافُ الزِّنَا وَلَوْ فَقِيرًا ‏,‏ وَاشْتِغَالُهُ بِهِ أَفْضَلُ مِنْ التَّخَلِّي لِنَوَافِلِ الْعِبَادَةِ ‏,‏ وَيُبَاحُ لِمَنْ لَا شَهْوَةَ لَهُ ‏,‏ وَيَجِبُ عَلَى مَنْ يَخَافُ الزِّنَا مِنْ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ عَلِمَا أَوْ ظَنَّا ‏,‏ وَيُقَدَّمُ حِينَئِذٍ عَلَى حَجٍّ وَاجِبٍ ‏,‏ نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رضي الله عنه ‏,‏ وَلَا يَكْتَفِي فِي الْوُجُوبِ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ ‏,‏ بَلْ يَكُونُ فِي مَجْمُوعِ الْعُمْرِ ‏,‏ وَلَا يَكْتَفِي بِالْعَقْدِ فَقَطْ ‏,‏ بَلْ يَجِبُ الِاسْتِمْتَاعُ ‏,‏ وَيَجْزِي التَّسَرِّي عَنْهُ ‏,‏ وَيَجِبُ بِالنَّذْرِ ‏,‏ وَيَحْرُمُ بِدَارِ حَرْبٍ إلَّا لِضَرُورَةٍ ‏,‏ فَإِنْ كَانَتْ لَمْ يَحْرُمْ ‏.‏

وَيَعْزِلُ وُجُوبًا إنْ حُرِّمَ وَإِلَّا اسْتِحْبَابًا ‏.‏

اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ تَكُونَ آيِسَةً أَوْ صَغِيرَةً فَلَا حُرْمَةَ ‏.‏

وَقِيلَ إنَّ النِّكَاحَ لِغَيْرِ ذِي شَهْوَةٍ مَكْرُوهٌ لِمَنْعِ مَنْ يَتَزَوَّجُهَا مِنْ التَّحْصِينِ بِغَيْرِهِ ‏,‏ وَإِضْرَارِهَا بِحَبْسِهَا عَلَى نَفْسِهِ ‏,‏ وَتَعْرِيضِ نَفْسِهِ لِوَاجِبَاتٍ وَحُقُوقٍ لَعَلَّهُ لَا يَقُومُ بِجَمِيعِهَا ‏,‏ وَيَشْتَغِلُ عَنْ الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ بِمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ ‏.‏

فَإِنْ قُلْت‏:‏ قَدْ تَقَدَّمَ فِي كَلَامِ النَّاظِمِ أَنَّهُ لَا يَنْكِحُ مَعَ الْفَقْرِ إلَّا لِضَرُورَةٍ ‏.‏

وَهُنَا ذَكَرْت أَنَّهُ يُسَنُّ لِذِي شَهْوَةٍ وَلَوْ فَقِيرًا حَيْثُ لَمْ يَخَفْ الزِّنَا ‏.‏

فَالْجَوَابُ كَلَامُ النَّاظِمِ مَبْنِيٌّ عَلَى مَرْجُوحٍ ‏.‏

قَالَ فِي الْفُرُوعِ‏:‏ وَالْمَنْصُوصُ حَتَّى لِفَقِيرٍ ‏.‏

وَجَزَمَ فِي النَّظْمِ لَا يَتَزَوَّجُ فَقِيرٌ إلَّا ضَرُورَةً ‏.‏

وَكَذَا قَيَّدَهَا ابْنُ رَزِينٍ بِالْمُوسِرِ وَالْمَذْهَبُ مَا ذَكَرْنَا نَقَلَ صَالِحٌ عَنْ الْإِمَامِ يَقْتَرِضُ وَيَتَزَوَّجُ ‏.‏

وَاحْتَجَّ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصْبِحُ وَمَا عِنْدَهُمْ شَيْءٌ وَيُمْسِي وَمَا عِنْدَهُمْ شَيْءٌ ‏;‏ وَلِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم زَوَّجَ رَجُلًا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى خَاتَمٍ مِنْ حَدِيدٍ وَلَا وَجَدَ إلَّا إزَارَهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ رِدَاءٌ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ ‏.‏

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ غِذَاء‏:‏ هَذَا فِيهِ نِزَاعٌ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ ‏,‏ انْتَهَى ‏.‏

وَفِي الشَّرْحِ الْكَبِيرِ‏:‏ هَذَا فِي حَقِّ مَنْ يُمْكِنُهُ التَّزْوِيجُ فَأَمَّا مَنْ لَمْ يُمْكِنُهُ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ‏}‏ انْتَهَى ‏.‏

وَأَقُولُ مُسْتَمِدًّا مِنْ اللَّهِ التَّوْفِيقَ وَالْحَوْلَ‏:‏ يَنْبَغِي أَنْ يُفَصَّلَ بَيْنَ الْفَقِيرِ الَّذِي لَا يَجِدُ مَا يُنْفِقُ وَلَيْسَ بِذِي كَسْبٍ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَيْسَ بِذِي شَهْوَةٍ ‏.‏

فَيُقَالُ يُكْرَهُ النِّكَاحُ فِي حَقِّهِ لِعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى مُؤَنِ النِّكَاحِ ‏.‏

وَعَدَمِ تَحْصِينِ زَوْجَتِهِ ‏.‏

وَعَدَمِ حَاجَتِهِ إلَيْهِ ‏.‏

فَحِينَئِذٍ تَكْمُلُ الْأَحْكَامُ الْخَمْسُ ‏.‏

ثُمَّ رَأَيْت ابْنَ قُنْدُسٍ فِي حَوَاشِي الْفُرُوعِ ذَكَرَهَا رِوَايَةً عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فَلِلَّهِ الْحَمْدُ عَلَى الْمُوَافَقَةِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ ‏.‏

وَقَدْ جَاءَتْ الْأَخْبَارُ ‏,‏ وَصَحَّتْ الْآثَارُ عَنْ النَّبِيِّ الْمُخْتَارِ وَالصَّحَابَةِ الْأَخْيَارِ ‏,‏ وَالتَّابِعِينَ الْأَبْرَارِ وَالْمُجْتَهِدِينَ الْأَحْبَارِ - بِالْحَثِّ عَلَى النِّكَاحِ وَالتَّرْغِيبِ فِيهِ ‏.‏

وَقَدْ مَضَى عِدَّةُ أَحَادِيثَ نَاطِقَةٌ بِمَا نَحْنُ فِيهِ ‏.‏

وَرَوَى ابْنُ غِذَاء عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا‏:‏ ‏"‏ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ طَاهِرًا مُطَهَّرًا فَلْيَتَزَوَّجْ الْحَرَائِرَ ‏"‏ وَذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ عَنْ أَنَسٍ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم ‏.‏

وَتَعَقَّبَهُ غِذَاء بِأَنَّهُ أَخْرَجَهُ ابْنُ غِذَاء وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ مَرْفُوعًا ‏"‏ أَرْبَعٌ مِنْ سُنَنِ الْمُرْسَلِينَ‏:‏ الْحِنَّاءُ وَالتَّعَطُّرُ وَالسِّوَاكُ وَالنِّكَاحُ ‏"‏ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى لَفْظَةِ الْحِنَّاءِ ‏.‏

وَأَنَّهُ رُوِيَ بِالْيَاءِ الْحَيَاءُ ‏.‏

وَإِنَّ ابْنَ الْقَيِّمِ قَالَ هُوَ الْخِتَانُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ‏.‏

وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه مَرْفُوعًا‏:‏ ‏"‏ ثَلَاثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ عَوْنُهُمْ‏:‏ الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ‏,‏ وَالْمُكَاتَبُ الَّذِي يُرِيدُ الْأَدَاءَ وَالنَّاكِحُ الَّذِي يُرِيدُ الْعَفَافَ ‏"‏ وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَأَخْرَجَ غِذَاء أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏"‏ مَنْ كَانَ مُوسِرًا لَأَنْ يَنْكِحَ ثُمَّ لَمْ يَنْكِحْ فَلَيْسَ مِنِّي ‏"‏ وَتَقَدَّمَ ‏.‏

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ‏:‏ ‏"‏ جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ غِذَاء ‏.‏

فَقَالُوا‏:‏ وَأَيْنَ نَحْنُ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ ‏,‏ قَالَ أَحَدُهُمْ‏:‏ أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا ‏,‏ وَقَالَ آخَرُ‏:‏ أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ ‏.‏

وَقَالَ آخَرُ‏:‏ وَأَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا ‏,‏ فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَيْهِمْ فَقَالَ‏:‏ أَنْتُمْ الْقَوْمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا ‏.‏

أَمَا وَاَللَّهِ إنِّي لِأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ ‏.‏

لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ ‏.‏

وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ ‏.‏

وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ ‏.‏

فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي ‏"‏ ‏.‏

وَرَوَى غِذَاء فِي السُّنَنِ عَنْ أَبِي غِذَاء مَرْفُوعًا‏:‏ ‏"‏ تَزَوَّجُوا فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمْ الْأُمَمَ وَلَا تَكُونُوا كَرَهْبَانِيَّةِ النَّصَارَى ‏"‏ قَالَ بَعْضُ شُرَّاحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ‏:‏ إسْنَادُهُ ضَعِيفٌ وَكَذَا قَالَهُ فِي تَسْهِيلِ السَّبِيلِ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه‏:‏ لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنْ أَجَلِي إلَّا عَشَرَةُ أَيَّامٍ وَأَعْلَمُ أَنِّي أَمُوتُ فِي آخِرِهَا يَوْمًا لِي فِيهِنَّ طَوْلُ النِّكَاحِ لَتَزَوَّجْت مَخَافَةَ الْفِتْنَةِ ‏.‏

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ رحمه الله تعالى‏:‏ تَزَوَّجْ فَإِنَّ خَيْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَكْثَرُهَا نِسَاءً ‏.‏

وَفِي كِتَابِ رَوْضَةِ الْمُحِبِّينَ وَنُزْهَةِ الْمُشْتَاقِينَ عَنْ غِذَاء قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي الْإِمَامَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ رضي الله عنه‏:‏ لَيْسَتْ غِذَاء مِنْ أَمْرِ الْإِسْلَامِ فِي شَيْءٍ ‏.‏

النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجَ أَرْبَعَةَ عَشَرَةَ وَمَاتَ عَنْ تِسْعٍ ‏.‏

وَلَوْ تَزَوَّجَ بِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ تَمَّ أَمْرُهُ وَلَوْ تَرَك النَّاسُ النِّكَاحَ لَمْ يَكُنْ غَزْوٌ وَلَا حَجٌّ وَلَا كَذَا وَلَا كَذَا ‏.‏

وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصْبِحُ وَمَا عِنْدَهُمْ شَيْءٌ وَمَاتَ عَنْ تِسْعٍ ‏,‏ وَكَانَ يَخْتَارُ النِّكَاحَ وَيَحُثُّ عَلَيْهِ ‏,‏ وَيَنْهَى عَنْ التَّبَتُّلِ ‏,‏ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ عَلَى غَيْرِ الْحَقِّ وَيَعْقُوبُ فِي حُزْنِهِ قَدْ تَزَوَّجَ ‏.‏

وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ حُبِّبَ إلَيَّ النِّسَاءُ ‏.‏

قَالَ غِذَاء‏:‏ قُلْت لَهُ فَإِنَّ إبْرَاهِيمَ بْنَ أَدْهَمَ يُحْكَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ يَا لَوْعَةَ صَاحِبِ الْعِيَالِ - فَمَا قَدَرْت أَنْ أُتِمَّ الْحَدِيثَ - حَتَّى صَاحَ بِي وَقَالَ وَقَعْت فِي بُنَيَّاتِ الطَّرِيقِ ‏,‏ أَنْظُرْ مَا كَانَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَأَصْحَابُهُ ‏,‏ ثُمَّ قَالَ فَبُكَاءُ الصَّبِيِّ بَيْنَ يَدَيْ أَبِيهِ يَطْلُبُ مِنْهُ الْخُبْزَ أَفْضَلُ مِنْ كَذَا وَكَذَا أَيْنَ يَلْحَقُ الْمُتَعَبِّدُ وَالْعَزَبُ‏؟‏ انْتَهَى ‏.‏

 مطلب فِي ذَمِّ غِذَاء

وَأَنَّ الزَّوَاجَ مِنْ أَسْبَابِ الرِّزْقِ ‏(‏الثَّانِي‏)‏‏:‏ فِي ذَمِّ غِذَاء ‏,‏ وَقَدْ فُهِمَ مِمَّا ذَكَرْنَا ذَمَّهَا ‏,‏ وَقَوْلُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رضي الله عنه‏:‏ لَيْسَتْ غِذَاء مِنْ أَمْرِ الْإِسْلَامِ فِي شَيْءٍ ‏.‏

وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ بِسَنَدٍ رَمَزَ غِذَاء فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِحُسْنِهِ وَأَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدِهِ عَنْ عَطِيَّةَ بْنِ بِشْرٍ مَرْفُوعًا ‏"‏ شِرَارُكُمْ عُزَّابُكُمْ وَأَرْذَلُ مَوْتَاكُمْ عُزَّابُكُمْ ‏"‏ ‏.‏

وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى غِذَاء فِي الْأَوْسَطِ غِذَاء عَدِيٍّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا ‏"‏ شِرَارُكُمْ عُزَّابُكُمْ ‏"‏ ‏.‏

وَابْنُ عَدِيٍّ عَنْهُ مَرْفُوعًا ‏"‏ شِرَارُكُمْ عُزَّابُكُمْ ‏.‏

رَكْعَتَانِ مِنْ مُتَأَهِّلٍ خَيْرٌ مِنْ سَبْعِينَ رَكْعَةٍ مِنْ غَيْرِ مُتَأَهِّلٍ ‏"‏ وَقَدْ نَظَمَ ذَلِكَ ابْنُ الْعِمَادِ فَقَالَ‏:‏ شِرَارُكُمْ عُزَّابُكُمْ جَاءَ الْخَبَرُ أَرَاذِلُ الْأَمْوَاتِ عُزَّابُ الْبَشَرِ وَقَدْ أَوْرَدَهُ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَحَكَمَ عَلَيْهِ بِالْوَضْعِ وَأَعَلَّهُ بِخَالِدِ بْنِ إسْمَاعِيلَ قَالَ وَلَهُ طَرِيقٌ ثَانٍ فِيهِ يُوسُفُ بْنُ السَّفَرِ مَتْرُوكٌ ‏.‏

قَالَ الْحَافِظُ غِذَاء‏:‏ قُلْت وَرَدَ بِهَذَا اللَّفْظِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ وَمِنْ حَدِيثِ عَطِيَّةَ بْنِ بِشْرٍ غِذَاء أَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى غِذَاء غِذَاء فِي الشُّعَبِ ‏.‏

‏(‏الثَّالِثُ‏)‏ وَرَدَ فِي الْأَخْبَارِ أَنَّ الزَّوَاجَ مِنْ أَسْبَابِ الرِّزْقِ ‏.‏

فَرَوَى الْخَطِيبُ فِي تَارِيخِهِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها مَرْفُوعًا ‏"‏ تَزَوَّجُوا النِّسَاءَ فَإِنَّهُنَّ يَأْتِينَ بِالْمَالِ ‏"‏ وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ عَنْهَا مَرْفُوعًا أَيْضًا ‏.‏

وَرَوَاهُ أَبُو غِذَاء فِي مَرَاسِيلِهِ عَنْ عُرْوَةَ مُرْسَلًا وَرَوَى الْبَزَّارُ وَرُوَاتُهُ مُحْتَجٌّ بِهِمْ فِي الصَّحِيحِ إلَّا طَارِقَ بْنَ عَمَّارٍ فَفِيهِ كَلَامٌ قَرِيبٌ وَلَمْ يُتْرَكْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إنَّ الْمَعُونَةَ مِنْ اللَّهِ عَلَى قَدْرِ الْمَئُونَةِ ‏,‏ وَإِنَّ الصَّبْرَ يَأْتِي مِنْ اللَّهِ عَلَى قَدْرِ الْبَلَاءِ ‏"‏ قَالَ الْحَافِظُ غِذَاء حَدِيثٌ غَرِيبٌ ‏.‏

قُلْت‏:‏ وَرَوَاهُ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ فِي الْكُنَى غِذَاء فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا رضي الله عنه وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ‏.‏

 مطلب فِي فَضْلِ النَّفَقَةِ عَلَى الزَّوْجَاتِ وَالْعِيَالِ وَلَا سِيَّمَا الْبَنَاتِ

‏(‏الرَّابِعُ‏)‏ تَظَافَرَتْ الْأَخْبَارُ فِي فَضْلِ النَّفَقَةِ عَلَى الزَّوْجَاتِ وَالْعِيَالِ لَا سِيَّمَا الْبَنَاتِ ‏,‏ فَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا ‏"‏ دِينَارٌ أَنْفَقْته فِي سَبِيلِ اللَّهِ ‏,‏ وَدِينَارٌ أَنْفَقْته فِي رَقَبَةٍ ‏,‏ وَدِينَارٌ تَصَدَّقْت بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ ‏,‏ وَدِينَارٌ أَنْفَقْته عَلَى أَهْلِك ‏,‏ أَعْظَمُهَا أَجْرًا الَّذِي أ أَنْفَقْته عَلَى أَهْلِك ‏"‏ ‏.‏

وَفِي مُسْلِمٍ غِذَاء عَنْ غِذَاء مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرْفُوعًا ‏"‏ أَفْضَلُ دِينَارٍ يُنْفِقُهُ الرَّجُلُ دِينَارٌ يُنْفِقُهُ عَلَى عِيَالِهِ ‏,‏ وَدِينَارٌ يُنْفِقُهُ عَلَى دَابَّتِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ‏,‏ وَدِينَارٌ يُنْفِقُهُ عَلَى أَصْحَابِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ‏"‏ قَالَ أَبُو غِذَاء‏:‏ بَدَأَ بِالْعِيَالِ ‏.‏

ثُمَّ قَالَ أَبُو غِذَاء‏:‏ وَأَيُّ رَجُلٍ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ رَجُلٍ يُنْفِقُ عَلَى عِيَالٍ صِغَارٍ غِذَاء اللَّهُ أَوْ يَنْفَعُهُمْ اللَّهُ بِهِ وَيُغْنِيهِمْ‏؟‏ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ ‏"‏ وَإِنَّك لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إلَّا أُجِرْت عَلَيْهَا حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امْرَأَتِك ‏"‏ أَيْ فِي فَمِهَا ‏.‏

وَفِيهِمَا عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ ‏"‏ إذَا أَنْفَقَ الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةً وَهُوَ يَحْتَسِبُهَا كَانَتْ لَهُ صَدَقَةً ‏"‏ ‏.‏

وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي غِذَاء رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ مَا أَطْعَمْت نَفْسَك فَهُوَ لَك صَدَقَةٌ ‏,‏ وَمَا أَطْعَمْت وَلَدَك فَهُوَ لَك صَدَقَةٌ ‏,‏ وَمَا أَطْعَمْت زَوْجَتَك فَهُوَ لَك صَدَقَةٌ ‏,‏ وَمَا أَطْعَمْت خَادِمَك فَهُوَ لَك صَدَقَةٌ ‏"‏ ‏.‏

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ ‏"‏ مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا ‏,‏ وَيَقُولُ الْآخَرُ اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا ‏"‏ ‏.‏

وَفِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا ‏"‏ إنَّ اللَّهَ سَائِلٌ كُلَّ رَاعٍ عَمَّا اسْتَرْعَاهُ حَفِظَ أَمْ ضَيَّعَ ‏"‏ زَادَ فِي رِوَايَةٍ ‏"‏ حَتَّى يُسْأَلَ الرَّجُلُ عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ ‏"‏ ‏.‏

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ ‏"‏ دَخَلَتْ عَلَيَّ امْرَأَةٌ وَمَعَهَا ابْنَتَانِ لَهَا تَسْأَلُ فَلَمْ تَجِدْ عِنْدِي شَيْئًا غَيْرَ تَمْرَةٍ وَاحِدَةٍ فَأَعْطَيْتهَا إيَّاهَا فَقَسَمَتْهَا بَيْنَ ابْنَتِهَا وَلَمْ تَأْكُلْ مِنْهَا ثُمَّ قَامَتْ فَخَرَجَتْ ‏,‏ فَدَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَيْنَا فَأَخْبَرْته فَقَالَ مَنْ اُبْتُلِيَ مِنْ هَذِهِ الْبَنَاتِ بِشَيْءٍ فَأَحْسَنَ إلَيْهِنَّ كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنْ النَّارِ ‏"‏ وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِلَفْظِ ‏"‏ مَنْ اُبْتُلِيَ بِشَيْءٍ مِنْ الْبَنَاتِ فَصَبَرَ عَلَيْهِنَّ كُنَّ لَهُ حِجَابًا مِنْ النَّارِ ‏"‏ ‏.‏

وَفِي مُسْلِمٍ عَنْهَا رضي الله عنها قَالَتْ ‏"‏ جَاءَتْنِي مِسْكِينَةٌ تَحْمِلُ ابْنَتَيْنِ لَهَا فَأَطْعَمْتهَا ثَلَاثَ غِذَاء فَأَعْطَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَمْرَةً ‏,‏ وَرَفَعَتْ إلَى فِيهَا تَمْرَةً لِتَأْكُلْهَا فَاسْتَطْعَمَتْهَا ابْنَتَاهَا فَشَقَّتْ التَّمْرَةَ الَّتِي كَانَتْ تُرِيدُ أَنْ تَأْكُلَهَا بَيْنَهُمَا فَأَعْجَبَنِي شَأْنُهَا ‏"‏ فَذَكَرْت الَّذِي صَنَعَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ‏,‏ فَقَالَ إنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْجَبَ لَهَا بِهَا الْجَنَّةَ أَوْ أَعْتَقَهَا بِهَا مِنْ النَّارِ ‏"‏ ‏.‏

وَفِيهِ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ ‏"‏ مَنْ عَالَ جَارِيَتَيْنِ حَتَّى تَبْلُغَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَا ‏,‏ وَهُوَ وَضَمَّ أَصَابِعَهُ ‏"‏ ‏.‏

وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِلَفْظٍ ‏"‏ مَنْ عَالَ جَارِيَتَيْنِ دَخَلْت أَنَا وَهُوَ الْجَنَّةَ كَهَاتَيْنِ ‏,‏ وَأَشَارَ بِأُصْبُعَيْهِ ‏"‏ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَلَفْظُهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ مَنْ عَالَ ابْنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ‏,‏ أَوْ أُخْتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ‏,‏ حَتَّى يَبِنَّ أَوْ يَمُوتَ عَنْهُنَّ ‏,‏ كُنْت أَنَا وَهُوَ فِي الْجَنَّةِ كَهَاتَيْنِ ‏,‏ وَأَشَارَ بِأُصْبُعَيْهِ السَّبَّابَةُ وَاَلَّتِي تَلِيهَا ‏"‏ ‏.‏

وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ غِذَاء عَنْ المطلب بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَخْزُومِيِّ قَالَ ‏"‏ دَخَلْت عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ يَا بُنَيَّ أَلَا أُحَدِّثُك بِمَا سَمِعْت مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏؟‏ قُلْت بَلَى يَا غِذَاء ‏,‏ قَالَتْ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ ‏"‏ مَنْ أَنْفَقَ عَلَى ابْنَتَيْنِ أَوْ أُخْتَيْنِ أَوْ ذَوَاتَيْ قَرَابَةٍ يَحْتَسِبُ النَّفَقَةَ عَلَيْهِمَا حَتَّى يُغْنِيَهُمَا اللَّهُ أَوْ يَكْفِيَهُمَا كَانَتَا لَهُ سِتْرًا مِنْ النَّارِ ‏"‏ ‏.‏

وَرَوَى أَبُو غِذَاء وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ‏:‏ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ مَنْ كَانَتْ لَهُ أُنْثَى فَلَمْ يَئِدْهَا وَلَمْ يُهِنْهَا وَلَمْ يُؤْثِرْ وَلَدَهُ - يَعْنِي الذُّكُورَ - عَلَيْهَا أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ ‏"‏ ‏.‏

قَوْلُهُ لَمْ يَئِدْهَا أَيْ لَمْ يَدْفِنْهَا حَيَّةً ‏.‏وَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَدْفِنُونَ الْبَنَاتِ أَحْيَاءً ‏,‏ وَمِنْهُ قوله تعالى ‏{‏وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ‏}‏

وَفِي الْبَابِ عِدَّةُ أَحَادِيثَ ‏,‏ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ ‏.‏

ثُمَّ إنَّ النَّاظِمَ رحمه الله تعالى حَضَّ عَلَى الْعَفَافِ ‏,‏ وَرَشَّحَ ذَلِكَ بِأَنَّ مَنْ عَفَّ عَنْ مَحَارِمِ النَّاسِ عَفَّ أَهْلُهُ ‏,‏ وَمَنْ لَا فَلَا فَقَالَ‏:‏

 مطلب مَنْ عَفَّ عَنْ مَحَارِمِ النَّاسِ عَفَّ أَهْلُهُ

وَمَنْ لَا فَلَا وَمَنْ عَفَّ تَقْوًى عَنْ مَحَارِمِ غَيْرِهِ يَعِفَّ غِذَاء حَقًّا وَإِنْ يَزْنِ يُفْسَدْ ‏(‏وَمَنْ‏)‏ أَيْ أَيُّ رَجُلٍ ‏(‏عَفَّ‏)‏ أَيْ لَمْ يَزْنِ ‏,‏ وَمِثْلُهُ مَنْ كَفَّ بَصَرَهُ ‏(‏تَقْوَى‏)‏ أَيْ لِأَجْلِ التَّقْوَى لَا لِخَوْفِ عَاجِلٍ فِي الدُّنْيَا وَلَا لِحِفْظِ مَنْصِبِهِ وَنَامُوسِهِ ‏(‏عَنْ‏)‏ الزِّنَا فِي ‏(‏مَحَارِمِ‏)‏ أَيْ نِسَاءِ ‏(‏غَيْرِهِ‏)‏ وَمِثْلُ النِّسَاءِ الذُّكُورِ بِأَنْ عَفَّ عَنْ اللِّوَاطِ فِي أَوْلَادِ غَيْرِهِ تَقْوَى ‏(‏يَعِفَّ‏)‏ أَيْ لَمْ يَزْنِ ‏(‏غِذَاء‏)‏ بِإِسْقَاطِ الْهَمْزِ ضَرُورَةً مِنْ نِسَائِهِ مِنْ زَوْجَاتِهِ وَسَرَارِيِّهِ وَبَنَاتِهِ وَأَخَوَاتِهِ وَأُمَّهَاتِهِ وَنَحْوِهِنَّ حَقٌّ ذَلِكَ ‏(‏حَقًّا‏)‏ وَلَا تَشُكَّ فِيهِ فَإِنَّهُ وَرَدَ عَنْ الْمَعْصُومِ الَّذِي لَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى ‏.‏

فَقَدْ رَوَى الْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ ‏"‏ عِفُّوا عَنْ نِسَاءِ النَّاسِ تَعِفَّ نِسَاؤُكُمْ ‏,‏ وَبِرُّوا آبَاءَكُمْ تَبَرَّكُمْ أَبْنَاؤُكُمْ ‏,‏ وَمَنْ أَتَاهُ أَخُوهُ مُتَنَصِّلًا فَلْيَقْبَلْ ذَلِكَ مُحِقًّا كَانَ أَوْ مُبْطِلًا ‏,‏ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ لَمْ يَرِدْ عَلَيَّ الْحَوْضَ ‏"‏ ‏.‏

‏(‏وَإِنْ‏)‏ حَرْفُ شَرْطٍ جَازِمٍ ‏(‏يَزْنِ‏)‏ فِعْلُ الشَّرْطِ مَجْزُومٌ بِحَذْفِ الْيَاءِ ‏(‏يُفْسَدْ‏)‏ فِعْلُ مُضَارِعٌ مَبْنِيٌّ لِلْمَجْهُولِ جَوَابُ الشَّرْطِ مَجْزُومٌ وَحُرِّكَ بِالْكَسْرِ لِلْقَافِيَةِ ‏,‏ أَيْ وَإِنْ يَزْنِ الرَّجُلُ يُفْسَدْ فِي أَهْلِهِ ‏,‏ يَعْنِي يُزْنَى فِي أَهْلِهِ ‏,‏ لِأَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ جَزَاءً وِفَاقًا ‏.‏

وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونُ مَبْنِيًّا لِلْمَعْلُومِ أَيْ يَفْسُدُ أَهْلُهُ ‏.‏

وَرَوَى غِذَاء فِي الْأَوْسَطِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها مَرْفُوعًا ‏"‏ عِفُّوا تَعِفَّ نِسَاؤُكُمْ ‏.‏

وَبِرُّوا آبَاءَكُمْ تَبَرَّكُمْ أَبْنَاؤُكُمْ ‏,‏ وَمَنْ اعْتَذَرَ إلَى أَخِيهِ الْمُسْلِمِ مِنْ شَيْءٍ بَلَغَهُ عَنْهُ فَلَمْ يَقْبَلْ عُذْرَهُ لَمْ يَرِدْ عَلَيَّ الْحَوْضِ ‏"‏ وَرَوَاهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ ‏.‏

وَرَوَى الْقَاسِمُ بْنُ بِشْرٍ فِي أَمَالِيهِ وَابْنُ عَدِيٍّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما مَرْفُوعًا ‏"‏ عِفُّوا تَعِفَّ نِسَاؤُكُمْ ‏"‏ وَرَوَى ابْنُ غِذَاء بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ ‏"‏ مَنْ سَتَرَ عَوْرَةَ أَخِيهِ سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ‏,‏ وَمَنْ كَشَفَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ كَشَفَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ حَتَّى يَفْضَحَهُ بِهَا ‏"‏ ‏.‏

قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى‏:‏ قَالَ بَعْضُ الْعُبَّادِ‏:‏ نَظَرْت امْرَأَةً لَا تَحِلُّ لِي فَنَظَرَ زَوْجَتِي مَنْ لَا أُرِيدُ ‏.‏

وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي صَيْدِ الْخَاطِرِ‏:‏ مَا نَزَلَتْ بِي آفَةٌ وَلَا غَمٌّ وَلَا ضِيقُ صَدْرٍ إلَّا بِزَلَلٍ أَعْرِفُهُ حَتَّى يُمْكِنَنِي أَنْ أَقُولَ هَذَا بِالشَّيْءِ الْفُلَانِيِّ ‏,‏ وَرُبَّمَا تَأَوَّلْت تَأْوِيلًا فِيهِ بُعْدٌ فَأَرَى الْعُقُوبَةَ ‏.‏

وَقَالَ مَحْمُودٌ الْوَرَّاقُ‏:‏ رَأَيْت صَلَاحَ الْمَرْءِ يُصْلِحُ أَهْلَهُ وَيُعْدِيهِمْ دَاءُ الْفَسَادِ إذَا غِذَاء وَيَشْرُفُ فِي الدُّنْيَا بِفَضْلِ صَلَاحِهِ وَيُحْفَظُ بَعْدَ الْمَوْتِ فِي الْأَهْلِ غِذَاء وَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ‏:‏ لَا تَلْتَمِسْ مِنْ غِذَاء النَّاسِ مَا سَتَرُوا فَيَكْشِفُ اللَّهُ سِتْرًا مِنْ غِذَاء وَاذْكُرْ مَحَاسِنَ مَا فِيهِمْ إذَا ذُكِرُوا وَلَا تَعِبْ أَحَدًا مِنْهُمْ بِمَا غِذَاء وَاسْتَغْنِ بِاَللَّهِ عَنْ كُلٍّ فَإِنَّ بِهِ غِنًى لِكُلٍّ وَثِقْ بِاَللَّهِ غِذَاء وَقَالَ آخَرُ‏:‏ يَا هَاتِكًا حُرُمَ الرِّجَالِ وَتَابِعًا طُرُقَ الْفَسَادِ فَأَنْتَ غَيْرُ مُكَرَّمِ مَنْ يَزْنِ فِي قَوْمٍ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ فِي أَهْلِهِ يُزْنَى بِرُبْعِ الدِّرْهَمِ إنَّ الزِّنَا دَيْنٌ إذَا اسْتَقْرَضَتْهُ كَانَ غِذَاء مِنْ أَهْلِ بَيْتِك فَاعْلَمْ

 مطلب بَيَانُ مَا وَرَدَ مِنْ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ فِي التَّخْوِيفِ مِنْ الزِّنَا

1‏.‏ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ الْمُخْتَارِ ‏,‏ فِي التَّرْهِيبِ وَالتَّخْوِيفِ مِنْ الزِّنَا وَتَعْظِيمِ أَمْرِهِ عِدَّةُ أَخْبَارٍ ‏,‏ وَنَفَّرَ مِنْهُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ ‏,‏ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ فِي عِدَّةِ آيَاتٍ فَقَالَ جَلَّ شَأْنُهُ‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً ‏}

‏.‏

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ ‏"‏ لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ ‏,‏ وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ‏,‏ وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِين يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ ‏"‏ وَرَوَاهُ أَبُو غِذَاء وَالتِّرْمِذِيُّ غِذَاء ‏.‏

وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ ‏"‏ فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ ‏"‏ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ‏:‏ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ‏:‏ الثَّيِّبُ الزَّانِي ‏,‏ وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ ‏,‏ وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ ‏"‏ وَرَوَى غِذَاء عَنْ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا ‏"‏ الزِّنَا يُورِثُ الْفَقْرَ ‏"‏ وَرَوَى أَبُو غِذَاء وَاللَّفْظُ لَهُ وَالتِّرْمِذِيُّ غِذَاء وَالْحَاكِمُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا‏:‏ إذَا زَنَى الرَّجُلُ أُخْرِجَ مِنْهُ الْإِيمَانُ وَكَانَ عَلَيْهِ كَالظُّلَّةِ فَإِذَا قَلَعَ رَجَعَ إلَيْهِ الْإِيمَانُ ‏"‏ ‏.‏

وَرَوَى غِذَاء وَذَكَرَهُ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي رَوْضَةِ الْمُحِبِّينَ عَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه مَرْفُوعًا ‏"‏ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ إيَّاكُمْ وَالزِّنَا فَإِنَّ فِيهِ سِتُّ خِصَالٍ ثَلَاثٌ فِي الدُّنْيَا وَثَلَاثٌ فِي الْآخِرَةِ ‏,‏ فَأَمَّا اللَّوَاتِي فِي الدُّنْيَا فَذَهَابُ الْبَهَاءِ ‏,‏ وَدَوَامُ الْفَقْرِ ‏,‏ وَقِصَرُ الْعُمْرِ ‏,‏ وَأَمَّا اللَّوَاتِي فِي الْآخِرَةِ فَسَخَطُ اللَّهِ ‏,‏ وَسُوءُ الْحِسَابِ ‏,‏ وَدُخُولُ النَّارِ ‏"‏ قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ‏:‏ وَيُذْكَرُ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ‏:‏ الْمُقِيمُ عَلَى الزِّنَا كَعَابِدِ وَثَنٍ وَرَفَعَهُ بَعْضُهُمْ ‏.‏

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ‏:‏ وَهَذَا أَوْلَى أَنْ يُشَبَّهَ بِعَابِدِ الْوَثَنِ مِنْ مُدْمِنِ الْخَمْرِ ‏.‏

وَفِي الْمُسْنَدِ وَغَيْرِهِ مَرْفُوعًا ‏"‏ مُدْمِنُ الْخَمْرِ كَعَابِدِ وَثَنٍ ‏"‏ فَإِنَّ الزِّنَا أَعْظَمُ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ ‏.‏

قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رضي الله عنه‏:‏ لَيْسَ بَعْدَ قَتْلِ النَّفْسِ أَعْظَمُ مِنْ الزِّنَا ‏.‏

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ ‏"‏ سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ‏؟‏ قَالَ أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَك ‏,‏ قُلْت‏:‏ إنَّ ذَلِكَ لَعَظِيمٌ ‏,‏ قُلْت ثُمَّ أَيْ‏؟‏ قَالَ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَك مَخَافَةَ أَنْ يُطْعَمَ مَعَك ‏,‏ قُلْت ثُمَّ أَيْ‏؟‏ قَالَ أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِك ‏"‏ ‏.‏

وَذَكَرَ سُفْيَانُ بْنُ غِذَاء عَنْ جَامِعِ بْنِ شَدَّادٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ‏:‏ إذَا بُخِسَ الْمِكْيَالُ حُبِسَ الْقَطْرُ ‏,‏ وَإِذَا ظَهَرَ الزِّنَا وَقَعَ الطَّاعُونُ ‏,‏ وَإِذَا كَثُرَ الْكَذِبُ كَثُرَ الْهَرْجُ ‏.‏

وَيَكْفِي فِي قُبْحِ الزِّنَا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَعَ كَمَالِ رَحْمَتِهِ شَرَعَ فِيهِ أَفْحَشَ الْقِتْلَاتِ وَأَصْعَبَهَا وَأَفْضَحَهَا ‏,‏ وَأَمَرَ أَنْ يَشْهَدَ عِبَادُهُ الْمُؤْمِنُونَ تَعْذِيبَ فَاعِلِهِ ‏.‏

وَمِنْ قُبْحِهِ أَنَّ اللَّهَ فَطَرَ عَلَيْهِ بُغْضَ الْحَيَوَانِ الْبَهِيمِ الَّذِي لَا عَقْلَ لَهُ ‏,‏ كَمَا ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ غِذَاء قَالَ‏:‏ رَأَيْت فِي الْجَاهِلِيَّةِ قِرْدًا زَنَى بِقِرْدَةٍ ‏,‏ فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِمَا الْقُرُودُ فَرَجَمُوهُمَا حَتَّى مَاتَا ‏,‏ وَكُنْت فِيمَنْ رَجَمَهُمَا ‏.‏

‏.‏

 مطلب الزِّنَا يَجْمَعُ خِلَالَ الشَّرِّ كُلِّهَا

قَالَ فِي رَوْضَةِ الْمُحِبِّينَ‏:‏ وَالزِّنَا يَجْمَعُ خِلَالَ الشَّرِّ كُلَّهَا مِنْ قِلَّةِ الدِّينِ وَذَهَابِ الْوَرَعِ ‏,‏ وَفَسَادِ الْمُرُوءَةِ وَقِلَّةِ الْغَيْرَةِ ‏,‏ فَلَا تَجِدُ زَانِيًا مَعَهُ وَرَعٌ ‏,‏ وَلَا وَفَاءٌ بِعَهْدٍ ‏,‏ وَلَا صِدْقٌ فِي حَدِيثٍ ‏,‏ وَلَا مُحَافَظَةٌ عَلَى صَدِيقٍ ‏,‏ وَلَا غَيْرَةٌ تَامَّةٌ عَلَى أَهْلِهِ ‏,‏ فَالْغَدْرُ وَالْكَذِبُ وَالْخِيَانَةُ وَقِلَّةُ الْحَيَاءِ وَعَدَمُ الْمُرَاقَبَةِ وَعَدَمُ الْأَنَفَةِ لِلْحُرَمِ وَذَهَابُ الْغَيْرَةِ مِنْ الْقَلْبِ مِنْ شُعَبِهِ وَمُوجِبَاتِهِ ‏,‏ وَمِنْ مُوجِبَاتِهِ غَضَبُ الرَّبِّ بِإِفْسَادِ حُرَمِهِ وَعِيَالِهِ ‏,‏ وَلَوْ تَعَرَّضَ رَجُلٌ إلَى مَلِكٍ مِنْ الْمُلُوكِ بِذَلِكَ لَقَابَلَهُ أَسْوَأَ مُقَابَلَةٍ ‏.‏

وَمِنْهَا سَوَادُ الْوَجْهِ وَظُلْمَتُهُ وَمَا يَعْلُوهُ مِنْ الْكَآبَةِ وَالْمَقْتِ الَّذِي يَبْدُو عَلَيْهِ لِلنَّاظِرِينَ ‏.‏

وَمِنْهَا ظُلْمَةُ الْقَلْبِ ‏,‏ وَطَمْسُ نُورِهِ ‏,‏ وَهُوَ الَّذِي أَوْجَبَ طَمْسَ نُورِ الْوَجْهِ ‏,‏ وَغَشَيَانَ الظُّلْمَةِ لَهُ ‏,‏ وَمِنْهَا الْفَقْرُ اللَّازِمُ ‏,‏ وَفِي أَثَرٍ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ إنَّ اللَّهَ مُهْلِكُ الطُّغَاةِ ‏,‏ وَمُفْقِرُ الزُّنَاةِ ‏.‏

وَمِنْهَا أَنَّهُ يُذْهِبُ حُرْمَةَ فَاعِلِهِ وَيَسْقُطُ مِنْ عَيْنِ رَبِّهِ وَمِنْ أَعْيُنِ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ ‏.‏

وَمِنْهَا أَنَّهُ يَسْلُبُهُ أَحْسَنَ الْأَسْمَاءِ ‏,‏ وَهُوَ اسْمُ الْعِفَّةِ وَالْبِرِّ وَالْعَدَالَةِ ‏,‏ وَيُعْطِيه أَضْدَادَهَا كَاسْمِ الْفَاجِرِ وَالْفَاسِقِ وَالزَّانِي وَالْخَائِنِ ‏.‏

وَمِنْهَا أَنَّهُ يَسْلُبُهُ اسْمَ الْإِيمَانِ كَمَا مَرَّ ‏,‏ فَيَسْلُبُ اسْمَ الْإِيمَانِ الْمُطْلَقِ دُونَ مُطْلَقِ الْإِيمَانِ ‏,‏ وَسَأَلَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ رضي الله عنهما عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَخَطَّ دَائِرَةً فِي الْأَرْضِ وَقَالَ هَذِهِ دَائِرَةُ الْإِيمَانِ ثُمَّ خَطَّ دَائِرَةً أُخْرَى خَارِجَةً عَنْهَا وَقَالَ هَذِهِ لِلْإِسْلَامِ ‏,‏ فَإِذَا زَنَى الْعَبْدُ خَرَجَ مِنْ هَذِهِ وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ هَذِهِ ‏,‏ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِ جُزْءٍ مَا مِنْ الْإِيمَانِ لَهُ أَنْ يُسَمَّى مُؤْمِنًا ‏,‏ كَمَا أَنَّ الرَّجُلَ يَكُونُ مَعَهُ جُزْءٌ مَا مِنْ الْعِلْمِ وَلَا يُسَمَّى بِهِ عَالِمًا فَقِيهًا ‏,‏ وَكَذَلِكَ يَكُونُ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ التَّقْوَى وَلَا يُسَمَّى مُتَّقِيًا وَنَظَائِرُهُ ‏.‏

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ‏:‏ فَالصَّوَابُ إجْرَاءُ الْحَدِيثِ عَلَى ظَاهِرِهِ ‏,‏ وَلَا يُتَأَوَّلُ بِمَا يُخَالِفُ ظَاهِرَهُ ‏.‏

قُلْت‏:‏ وَكُنْت سَأَلْت فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ وَأَلْفٍ هَلْ يَكُونُ الزَّانِي فِي حَالِ تَلَبُّسِهِ بِالزِّنَا وَلِيًّا لِلَّهِ تَعَالَى‏؟‏ قُلْت‏:‏ لَا ‏,‏ فَعَظُمَ ذَلِكَ عَلَى بَعْضِ الطَّلَبَةِ وَالْمُدَرِّسِينَ ‏,‏ وَمَضَى رَجُلٌ مِنْ الْإِخْوَانِ إلَى أَحَدِ الْأَعْيَانِ فَذَكَرَ لَهُ الْقِصَّةَ وَحَرَّفَ بَعْضَ تَحْرِيفٍ ‏,‏ وَكَانَ ذَلِكَ الْكَبِيرُ مِنْ أَشْيَاخِي ‏,‏ فَلَمَّا حَضَرْت لِصَلَاةِ الظُّهْرِ فِي جَامِعِ بَنِي أُمَيَّةَ وَفَرَغْت مِنْ الصَّلَاةِ وَانْصَرَفْت إلَى نَحْوِ الْمَدْرَسَةِ أَرْسَلَ إلَيَّ الشَّيْخُ وَقَالَ لِي بَلَغَنِي عَنْك مَقَالَةً سَاءَتْنِي ‏,‏ فَقُلْت لَهُ‏:‏ لَا سَاءَك اللَّهُ بِمَكْرُوهٍ مَا هِيَ‏؟‏ فَذَكَرَ لِي الْقَضِيَّةَ ‏,‏ فَقُلْت‏:‏ سُبْحَانَ اللَّه ‏,‏ الْمُصْطَفَى يَسْلُبُهُ اسْمَ الْإِيمَانِ وَأَنْتُمْ لَا تَسْلُبُونَهُ اسْمَ الْوِلَايَة ‏,‏ فَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِ كَلَامِ الْمَعْصُومِ عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ ‏,‏ إمَّا أَنْ يَكُونَ إيمَانُ الزَّانِي قَدْ ارْتَفَعَ عَنْهُ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَبِي غِذَاء وَغَيْرِهِ ‏,‏ وَكَانَ عَلَيْهِ كَالظُّلَّةِ ‏,‏ وَعِنْدَ غِذَاء‏:‏ أَنَّ الْإِيمَانَ سِرْبَالٌ سَرْبَلَهُ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ ‏,‏ فَإِنْ زَنَى الْعَبْدُ نَزَعَ مِنْهُ سِرْبَالَ الْإِيمَانِ ‏,‏ فَإِنْ تَابَ رَدَّ عَلَيْهِ ‏,‏ أَوْ يَكُونُ إيمَانُهُ نَاقِصًا ‏,‏ وَعَلَى الْحَالَتَيْنِ فَلَيْسَ هُوَ وَلِيًّا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ ‏.‏

فَرَضِيَ الشَّيْخُ بِمَا قُلْت وَدَعَا لِي وَانْصَرَفَ ‏,‏ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ‏.‏

وَمِنْهَا أَنَّهُ يُفَارِقُهُ الطِّيبُ الْمُتَّصِفُ بِهِ أَهْلُ الْعَفَافِ ‏,‏ وَيَتَبَدَّلُ بِهِ الْخُبْثُ الْمُتَّصِفُ بِهِ الزُّنَاةُ فِي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ‏}‏ وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ الْجَنَّةَ عَلَى كُلِّ خَبِيثٍ بَلْ جَعَلَهَا مَأْوَى الطَّيِّبِينَ ‏.‏

قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ‏}‏‏,‏ ‏{‏وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ‏}‏ وَالزُّنَاةُ مِنْ أَخْبَثِ الْخَلْقِ ‏.‏

وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ جَهَنَّمَ دَارَ الْخُبْثِ وَأَهْلِهِ ‏;‏ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ مَيَّزَ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ وَجَعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ فَوْقَ بَعْضٍ ثُمَّ أَلْقَاهُ وَأَلْقَى أَهْلَهُ فِي جَهَنَّمَ ‏,‏ فَلَا يَدْخُلُ النَّارَ طَيِّبٌ كَمَا لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ خَبِيثٌ ‏.‏

وَمِنْهَا أَنَّهُ يُعَرِّضُ نَفْسَهُ لِفَوَاتِ الِاسْتِمْتَاعِ بِالْحُورِ الْعَيْنِ فِي الْمَسَاكِنِ الطَّيِّبَةِ فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ‏.‏

وَإِذَا كَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَاقَبَ لَابِسَ الْحَرِيرِ فِي الدُّنْيَا بِحِرْمَانِهِ لُبْسَهُ فِي الْآخِرَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَلَأَنْ يَمْنَعَ مَنْ تَمَتَّعَ بِالصُّوَرِ الْمُحَرَّمَةِ فِي الدُّنْيَا مِنْ التَّمَتُّعِ بِالْحُورِ الْعَيْنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَوْلَى ‏.‏

بَلْ كُلُّ مَا نَالَهُ الْعَبْدُ فِي الدُّنْيَا ‏,‏ فَإِنَّ التَّوَسُّعَ مِنْ حَلَالِهِ ضَيَّقَ مِنْ حَظِّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقَدْرِ مَا يَتَوَسَّعُ فِيهِ فَكَيْفَ بِالْحَرَامِ ‏.‏

وَفِي كِتَابِ الزُّهْدِ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ‏:‏ لَا يَكُونُ الْبَطَّالُونَ حُكَمَاءُ ‏,‏ وَلَا تَلِجُ الزُّنَاةُ مَلَكُوتَ السَّمَاءِ ‏.‏

وَلَوْ شَرَعْنَا نَتَكَلَّمُ عَلَى فَضَائِحِ الزِّنَا وَقَبَائِحِ الْخَنَا لَخَرَجْنَا عَنْ الْمَقْصُودِ ‏,‏ وَلَكِنَّ فِي الْإِشَارَةِ مَا يُغْنِي عَنْ الْعِبَارَةِ ‏.‏

وَيَكْفِي الزَّانِي إبَاحَةَ دَمِهِ وَأَنَّهُ غَيْرُ مَعْصُومٍ ‏.‏

فَيَا لَهَا مِنْ صَفْقَةٍ مَا أَبْخَسَهَا ‏,‏ وَخَصْلَةٍ مَا أَنْحَسَهَا ‏.‏

قَدْ ذَهَبَتْ اللَّذَّاتُ ‏.‏

وَبَقِيَتْ الْحَسَرَاتُ ‏.‏

وَكَانَ سَيِّدُنَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ رضي الله عنه كَثِيرًا مَا يَنْشُدُ‏:‏ تَفْنَى اللَّذَاذَةُ مِمَّنْ نَالَ صَفْوَتَهَا مِنْ الْحَرَامِ وَيَبْقَى الْخِزْيُ وَالْعَارُ تَبْقَى عَوَاقِبُ سُوءٍ فِي مَغَبَّتِهَا لَا خَيْرَ فِي لَذَّةٍ مِنْ بَعْدِهَا النَّارُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ ‏.‏

‏.‏

وَلَمَّا فَرَغَ النَّاظِمُ رحمه الله تعالى مِنْ آدَابِ النِّكَاحِ وَمُتَعَلِّقَاتِهِ ‏.‏

أَخَذَ يَحُضُّ عَلَى الِاجْتِهَادِ فِي طَلَبِ الْعُلُومِ وَالرِّحْلَةِ فِي إدْرَاكِ مَنْطُوقِهَا وَالْمَفْهُومِ ‏.‏

لِأَنَّهَا سُلَّمُ الْخَيْرَاتِ ‏.‏

وَمِفْتَاحُ السَّعَادَاتِ ‏.‏

فَلَا يُفْتَحُ بَابُ خَيْرٍ وَيَرْتَقِي إلَى أَوَجِّ مَكْرُمَةٍ إلَّا بِالْعِلْمِ ‏;‏ لِأَنَّهُ الطَّرِيقُ الْمُسْتَقِيمُ ‏.‏

وَالسِّرَاجُ الْمُنِيرُ ‏.‏

فَمَنْ اقْتَبَسَهُ نَجَا ‏.‏

وَمَنْ ضَلَّهُ هَوَى فِي مُهَاوِي الْهَوَى ‏.‏

فَقَالَ رحمه الله تعالى‏:‏

 مطلب فِي الْحَثِّ عَلَى الصَّبْرِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ

فَكَابِدْ إلَى أَنْ تَبْلُغَ النَّفْسُ عُذْرَهَا وَكُنْ فِي اقْتِبَاسِ الْعِلْمِ طَلَّاعَ أَنْجُدِ ‏(‏فَكَابِدْ‏)‏ أَيْ قَاسِ فِي الطَّلَبِ ‏.‏

يُقَالُ كَابَدَهُ مُكَابَدَةً وَكِبَادًا قَاسَاهُ ‏.‏

وَالِاسْمُ الْكَابِدُ ‏.‏

أَيْ فَاطْلُبْ وَجِدَّ وَاجْتَهِدْ وَقَاسِ الشَّدَائِدَ ‏(‏إلَى‏)‏ أَنْ تَنْتَهِيَ إلَى أَقْصَى الْحَالَاتِ وَهِيَ ‏(‏أَنْ تَبْلُغَ النَّفْسُ‏)‏ فِي الْجَدِّ وَالِاجْتِهَادِ ‏(‏عُذْرَهَا‏)‏ فَإِنْ حَصَّلْتَ عِلْمًا كَانَ هُوَ الْمَقْصُودُ ‏.‏

وَإِلَّا عُذِرْت فِي بَذْلِ الْمَجْهُودِ ‏.‏

‏.‏

وَرَوَى غِذَاء فِي الْكَبِيرِ وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ مَنْ طَلَبَ عِلْمًا فَأَدْرَكَهُ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ كِفْلَيْنِ مِنْ الْأَجْرِ ‏,‏ وَمَنْ طَلَبَ عِلْمًا فَلَمْ يُدْرِكْهُ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ كِفْلًا مِنْ الْأَجْرِ ‏"‏ ‏.‏

وَمِمَّا يُنْسَبُ لِلْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه‏:‏ سَأَطْلُبُ عِلْمًا أَوْ أَمُوتُ بِبَلْدَةٍ يَقِلُّ بِهَا هَطْلُ الدُّمُوعِ عَلَى قَبْرِي وَلَيْسَ اكْتِسَابُ الْعِلْمِ يَا نَفْسُ فَاعْلَمِي بِمِيرَاثِ آبَاءٍ كِرَامٍ وَلَا صِهْرِ وَلَكِنَّ فَتَى الْفَتَيَانِ مَنْ رَاحَ وَاغْتَدَى لِيَطْلُبَ عِلْمًا بِالتَّجَلُّدِ وَالصَّبْرِ فَإِنْ نَالَ عِلْمًا عَاشَ فِي النَّاسِ مَاجِدًا وَإِنْ مَاتَ قَالَ النَّاسُ بَالَغَ فِي الْعُذْرِ إذَا هَجَعَ النُّوَامُ أَسْبَلْت عَبْرَتِي وَأَنْشَدْت بَيْتًا وَهُوَ مِنْ أَلْطَفِ الشَّعْرِ أَلَيْسَ مِنْ الْخُسْرَانِ أَنَّ غِذَاء تَمُرُّ بِلَا عِلْمٍ وَتُحْسَبُ مِنْ عُمْرِي وَذَكَرَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي مِفْتَاحِ دَارِ السعادة قَوْلَ بَعْضِ السَّلَفِ‏:‏ ‏"‏ إذَا أَتَى عَلَيَّ يَوْمٌ لَا أزداد فِيهِ عِلْمًا يُقَرِّبُنِي إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَلَا بُورِكَ لِي فِي طُلُوعِ شَمْسِ ذَلِكَ الْيَوْمِ ‏"‏ قَالَ‏:‏ وَقَدْ رُفِعَ هَذَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ‏,‏ وَرَفْعُهُ إلَيْهِ بَاطِلٌ ‏.‏

وَحَسْبُهُ أَنْ يَصِلَ إلَى وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَوْ التَّابِعِينَ ‏.‏

قَالَ وَفِي مِثْلِهِ قَالَ الْقَائِلُ‏:‏ إذَا مَرَّ بِي يَوْمٌ وَلَمْ أَسْتَفِدْ هُدًى وَلَمْ أَكْتَسِبْ عِلْمًا فَمَا ذَاكَ مِنْ عُمْرِي ‏(‏وَكُنْ‏)‏ أَنْتَ ‏(‏فِي اقْتِبَاسٍ‏)‏ أَيْ اسْتِفَادَةِ ‏(‏الْعِلْمِ‏)‏ يُقَالُ قَبَسَ يَقْبِسُ مِنْهُ نَارًا ‏,‏ وَاقْتَبَسَهَا أَخَذَهَا ‏,‏ وَالْعِلْمُ اسْتَفَادَهُ ‏.‏

قَالَهُ فِي الْقَامُوسِ ‏.‏

وَفِي حَدِيث عَلِيٍّ رضي الله عنه‏:‏ حَتَّى أُورِيَ قَبَسًا لِقَابِسٍ قَالَ فِي النِّهَايَةِ‏:‏ أَيْ أُظْهِرَ نُورًا مِنْ الْحَقِّ لِطَالِبِهِ ‏.‏

وَالْقَابِسُ طَالِبُ النَّارِ وَهُوَ فَاعِلٌ مِنْ قَبَسَ ‏.‏

وَمِنْهُ حَدِيثُ العرباض رضي الله عنه‏:‏ أَتَيْنَاك زَائِرِينَ وَمُقْتَبِسِينَ ‏,‏ أَيْ طَالِبِي الْعِلْمِ ‏.‏

وَحَدِيثُ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه‏:‏ فَإِذَا رَاحَ اقْتَبَسْنَاهُ مَا سَمِعْنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيْ أَعْلَمْنَاهُ إيَّاهُ ‏,‏ انْتَهَى ‏.‏

‏.‏

وَفِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ‏{‏انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ‏}‏ فَمُرَادُ النَّاظِمِ أَنْ تَكُونَ أَيُّهَا الْأَخُ الْبَاذِلُ جُهْدَهُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ وَاسْتِفَادَتِهِ ‏(‏طَلَّاعُ‏)‏ أَيْ قصاد ‏(‏أَنْجُدِ‏)‏ قَالَ فِي الْقَامُوسِ‏:‏ وَرَجُلٌ طَلَّاعُ الثَّنَايَا وَالْأَنْجُدِ كَشَدَّادٍ مُجَرِّبٍ لِلْأُمُورِ غِذَاء لَهَا يَعْلُوهَا وَيَقْهَرُهَا بِمَعْرِفَتِهِ وَتَجَارِبِهِ وَجَوْدَةِ رَأْيِهِ أَوْ الَّذِي يَؤُمُّ مَعَالِيَ الْأُمُورِ ‏,‏ انْتَهَى ‏.‏

وَالْأَنْجُدُ جَمْعُ نَجْدٍ وَهُوَ مَا أَشْرَفَ مِنْ الْأَرْضِ وَالطَّرِيقِ الْوَاضِحِ الْمُرْتَفِعِ وَمَا خَالَفَ الْغَوْرَ أَيْ تِهَامَةَ ‏,‏ وَتُضَمُّ جِيمُهُ مُذَكَّرٌ ‏,‏ أَعْلَاهُ تِهَامَةُ وَالْيَمَنُ ‏,‏ وَأَسْفَلُهُ الْعِرَاقُ وَالشَّامُ ‏,‏ وَأَوَّلُهُ مِنْ جِهَةِ الْحِجَازِ ذَاتُ عِرْقٍ ‏.‏

قَالَهُ فِي الْقَامُوسِ ‏.‏

وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ‏:‏ وَالنَّجْدُ مَا ارْتَفَعَ مِنْ الْأَرْضِ وَهُوَ اسْمٌ خَاصٌّ لِمَا دُونَ الْحِجَازِ مِمَّا يَلِي الْعِرَاقَ‏:‏ وَفِي لُغَةِ الْإِقْنَاعِ للحجاوي‏:‏ النَّجْدُ مَا ارْتَفَعَ مِنْ الْأَرْضِ ‏,‏ وَالْجَمْعُ نُجُودٌ ‏,‏ مِثْلُ فَلْسٍ وَفُلُوسٍ ‏,‏ وَبِاسْمِ الْوَاحِدِ سُمِّيَتْ بِلَادٌ مَعْرُوفَةٌ مِنْ عَمَلِ الْيَمَنِ وَهُوَ مَا بَيْنَ جَرَشَ إلَى سَوَادِ الْكُوفَةِ ‏.‏

قَالَ ابْنُ خَطِيبِ الدَّهْشَةِ‏:‏ وَأَوَّلُهُ نَاحِيَةُ الْحِجَازِ ذَاتُ عِرْقٍ وَآخِرُهُ سَوَادُ الْعِرَاقِ ‏.‏

قَالَ فِي التَّهْذِيبِ‏:‏ كُلُّ مَا وَرَاءَ الْخَنْدَقِ الَّذِي خَنْدَقَهُ كِسْرَى عَلَى سَوَادِ الْعِرَاقِ فَهُوَ نَجْدٌ إلَى أَنْ يَمِيلَ إلَى الْحَرَّةِ ‏,‏ فَإِذَا مِلْت إلَيْهَا فَأَنْتَ فِي الْحِجَازِ ‏.‏

وَفِي الْمَطَالِعِ‏:‏ نَجْدٌ مَا بَيْنَ جَرَشَ إلَى سَوَادِ الْكُوفَةِ ‏,‏ وحده مِمَّا يَلِي الْمَغْرِبَ ‏,‏ الْحِجَازُ عَلَى يَسَارِ الْكَعْبَةِ ‏,‏ وَنَجْدٌ كُلُّهَا مِنْ عَمَلِ الْيَمَامَةِ ‏.‏

وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ‏:‏ وَنَجْدٌ مِنْ بِلَادِ الْعَرَبِ وَهُوَ خِلَافُ الْغَوْرِ ‏,‏ وَالْغَوْرُ هُوَ تِهَامَةُ كُلُّهَا ‏,‏ وَكُلَّمَا ارْتَفَعَ مِنْ تِهَامَةَ إلَى أَرْضِ الْعِرَاقِ فَهُوَ نَجْدٌ وَهُوَ مُذَكَّرٌ ‏,‏ انْتَهَى ‏.‏

وَمُرَادُ النَّاظِمِ رحمه الله تعالى أَيْ وَكُنْ مُجَرِّبًا لِلْأُمُورِ وَقَاهِرًا لَهَا وَمُحْكِمًا مَعْرِفَتَهَا بِدِقَّةِ النَّظَرِ وَحُسْنِ التَّجَارِبِ وَإِتْقَانِ مَا تَقْبِسُهُ مِنْ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ ‏,‏ كَثِيرَ الرِّحْلَةِ فِي تَحْصِيلِ الْعُلُومِ ‏,‏ عَالِي الْهِمَّةِ فِي التَّطَلُّعِ عَلَى دَقَائِقِهَا وَإِتْقَانِ حَقَائِقِهَا ‏.‏

‏.‏

وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ ‏"‏ لَا يُنَالُ الْعِلْمُ بِرَاحَةِ الْجِسْمِ ‏"‏ ‏.‏

وَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ الْعِلْمُ إذَا أَعْطَيْته كُلَّك أَعْطَاك بَعْضَهُ ‏.‏

‏.‏

وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ ‏"‏ مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إلَى الْجَنَّةِ ‏"‏ ‏.‏

وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ غِذَاء وَاللَّفْظُ لَهُ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَنْ زِرِّ بْنِ غِذَاء قَالَ ‏"‏ أَتَيْت صَفْوَانَ بْنَ عَسَّالٍ الْمَرَادِيَّ رضي الله عنه فَقَالَ مَا جَاءَ بِك‏؟‏ قُلْت أَنْبِطُ الْعِلْمَ ‏,‏ قَالَ فَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ ‏"‏ مَا مِنْ خَارِجٍ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ إلَّا وَضَعَتْ لَهُ الْمَلَائِكَةُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا بِمَا يَصْنَعُ ‏"‏ قَوْلُهُ أَنْبِطُ أَيْ أَطْلُبُهُ وَأَسْتَخْرِجُهُ ‏.‏

وَعَنْ قَبِيصَةَ بْنِ غِذَاء رضي الله عنه قَالَ ‏"‏ أَتَيْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لِي يَا قَبِيصَةُ مَا جَاءَ بِك‏؟‏ قُلْت كَبِرَتْ سِنِي وَرَقَّ عَظْمِي فَأَتَيْتُك لِتُعَلِّمَنِي مَا يَنْفَعُنِي اللَّهُ بِهِ ‏.‏

قَالَ يَا قَبِيصَةُ مَا مَرَرْت بِحَجَرٍ وَلَا شَجَرٍ وَلَا مَدَرٍ إلَّا اسْتَغْفَرَ لَك ‏.‏

يَا قَبِيصَةُ إذَا صَلَّيْت الصُّبْحَ فَقُلْ ثَلَاثًا سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ وَبِحَمْدِهِ تُعَافَى مِنْ الْحُمَّى وَالْجُذَامِ وَالْفَلَجِ ‏.‏

يَا قَبِيصَةُ قُلْ اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك مِمَّا عِنْدَك ‏,‏ وَأَفِضْ عَلَيَّ مِنْ فَضْلِك ‏,‏ وَانْشُرْ عَلَيَّ مِنْ رَحْمَتِك ‏,‏ وَأَنْزِلْ عَلَيَّ مِنْ بَرَكَاتِك ‏"‏ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ‏.‏

وَفِي إسْنَادِهِ مَنْ لَمْ يُسَمَّ ‏.‏

وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ مَنْ خَرَجَ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى يَرْجِعَ ‏"‏ ‏.‏

وَأَخْرَجَ أَبُو غِذَاء عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ ‏"‏ مَنْ غَدَا يُرِيدُ الْعِلْمَ يَتَعَلَّمُهُ لِلَّهِ فَتَحَ اللَّهُ لَهُ بَابًا إلَى الْجَنَّةِ ‏,‏ وَفَرَشَتْ لَهُ الْمَلَائِكَةُ أَكْنَافَهَا ‏,‏ وَصَلَّتْ عَلَيْهِ مَلَائِكَةُ السَّمَوَاتِ وَحِيتَانُ الْبُحُورِ ‏,‏ وَلِلْعَالِمِ مِنْ الْفَضْلِ عَلَى الْعَابِدِ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى أَصْغَرِ كَوْكَبٍ فِي السَّمَاءِ ‏,‏ وَالْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَلَكِنَّهُمْ وَرَّثُوا الْعِلْمَ ‏,‏ فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظِّهِ ‏,‏ وَمَوْتُ الْعَالِمِ مُصِيبَةٌ لَا تُجْبَرُ ‏,‏ وَثُلْمَةٌ لَا تُسَدُّ ‏,‏ وَهُوَ نَجْمٌ طُمِسَ ‏.‏

مَوْتُ قَبِيلَةٍ أَيْسَرُ مِنْ مَوْتِ عَالِمٍ ‏"‏ وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ غِذَاء وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ وَمَوْتُ الْعَالِمِ إلَى آخِرِهِ ‏.‏

وَرَوَاهُ غِذَاء أَيْضًا ‏.‏

وَرَوَى غِذَاء فِي الْأَوْسَطِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما مَرْفُوعًا ‏"‏ اللَّهُمَّ ارْحَمْ خُلَفَائِي ‏,‏ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ خُلَفَاؤُك‏؟‏ قَالَ الَّذِينَ يَأْتُونَ مِنْ بَعْدِي يَرْوُونَ أَحَادِيثِي وَيُعَلِّمُونَهَا النَّاسَ ‏"‏ ‏.‏

وَمِمَّا يُنْسَبُ لِلْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه قَوْلُهُ‏:‏ تَغَرَّبْ عَنْ الْأَوْطَانِ فِي طَلَبِ الْعُلَا وَسَافِرْ فَفِي الْأَسْفَارِ خَمْسُ فَوَائِدِ إزَالَةُ هَمٍّ وَاكْتِسَابُ مَعِيشَةٍ وَعِلْمٌ وَآدَابٌ وَصُحْبَةُ مَاجِدِ فَإِنْ قِيلَ فِي الْأَسْفَارِ ذُلٌّ وَمِهْنَةٌ وَقَطْعُ الْفَيَافِي وَارْتِكَابُ الشَّدَائِدِ فَمَوْتُ الْفَتَى خَيْرٌ لَهُ مِنْ حَيَاتِهِ بِدَارِ هَوَانٍ بَيْنَ وَاشٍ وَحَاسِدِ وَمَرَّ أَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ لَمَّا سَمِعَ أَنَّ عِنْدَ رَجُلٍ أَحَادِيثَ عَوَالِي وَرَاءَ النَّهَرِ رَحَلَ إلَيْهِ ‏.‏

وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي صَيْدِ الْخَاطِرِ أَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ رضي الله عنه دَارَ الدُّنْيَا مَرَّتَيْنِ حَتَّى جَمَعَ الْمُسْنَدَ ‏.‏

وَلَمْ تَزَلْ الرِّحْلَةُ فِي الْعُلَمَاءِ مَطْلُوبَةً ‏,‏ وَهِيَ إلَى الْأَئِمَّةِ وَالْأَخْيَارِ مَنْسُوبَةٌ ‏,‏ وَحُسْنُ ذَلِكَ شَاعَ وَذَاعَ ‏,‏ وَمَلَأَ الْأَسْمَاعَ ‏,‏ فَلَا نُطِيلُ بِذِكْرِهِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ ‏.‏

‏.‏

وَلَا تذهبن الْعُمْرَ مِنْك سَبَهْلَلًا وَلَا تُغْبَنَن فِي الْغُمَّتَيْنِ بَلْ اجْهَدْ ‏(‏وَلَا تذهبن‏)‏ نَهْيٌ مُؤَكَّدٌ بِالنُّونِ الثَّقِيلَةِ وَالْفَاعِلُ الْمُخَاطَبُ ‏,‏ وَالْمُرَادُ كُلُّ مَنْ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُخَاطَبًا بِمِثْلِ مَا خَاطَبَ بِهِ ‏(‏الْعُمْرَ‏)‏ مَفْعُولٌ بِهِ أَيْ لَا تُذْهِبْ عُمْرَك النَّفِيسَ الَّذِي لَا قِيمَةَ لَهُ وَلَا خَطَرَ ‏,‏ وَلَا يُعَادِلُهُ جَوْهَرٌ وَلَا نَضْرٌ ‏,‏ وَلَا دُرٌّ وَلَا مَرْجَانُ وَلَا لُؤْلُؤٌ وَلَا عِقْيَانٌ ‏(‏مِنْك‏)‏ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ ‏,‏ الْمَخْلُوقُ لِعِبَادَةِ الرَّحْمَنِ وَمُجَاوَرَتِهِ فِي الْجِنَانِ ‏,‏ ‏(‏سَبَهْلَلًا‏)‏ أَيْ غَيْرَ مُكْتَرِثٍ بِذَهَابِهِ لَا فِي عَمَلِ دُنْيَا وَلَا آخِرَةٍ ‏,‏ كَمَا فِي الْقَامُوسِ قَالَ‏:‏ وَيَمْشِي سَبَهْلَلًا إذَا جَاءَ وَذَهَبَ فِي غَيْرِ شَيْءٍ وَمِنْهُ قَوْلُ صَاحِبِ الشاطبية فِيهَا‏:‏ وَلَوْ أَنَّ عَيْنًا سَاعَدَتْ لَتَوَكَّفَتْ سَحَائِبُهَا بِالدَّمْعِ دِيَمًا وهطلا وَلَكِنَّهَا عَنْ قَسْوَةِ الْقَلْبِ قَحْطُهَا فَيَا ضَيْعَةَ الْأَعْمَارِ تَمْشِي غِذَاء وَقَدْ قَالَ تَعَالَى ‏{‏وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا‏}‏ ‏.‏

وَرَوَى الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ ‏,‏ وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ الْأَمَانِيَّ ‏"‏ ‏.‏

وَقَالَ سَيِّدُنَا عُمَرُ‏:‏ حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا ‏,‏ وَزِنُوهَا قَبْلَ أَنْ تُوزَنُوا وَتَهَيَّئُوا لِلْعَرْضِ الْأَكْبَرِ ‏.‏

وَكَتَبَ إلَى أَبِي مُوسَى‏:‏ حَاسِبْ نَفْسَك فِي الرَّخَاءِ قَبْلَ حِسَابِ الشِّدَّةِ ‏.‏

وَفِي تَبْصِرَةِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ رحمه الله قَالَ‏:‏ كَانَ تَوْبَةُ بْنُ الصِّمَّةِ بِالرَّقَّةِ وَكَانَ مُحَاسِبًا لِنَفْسِهِ فَحَسَبَ يَوْمًا عُمْرَهُ فَإِذَا هُوَ ابْنُ سِتِّينَ سَنَةً ‏,‏ فَحَسَبَ أَيَّامَهَا فَإِذَا هِيَ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ أَلْفَ يَوْمٍ وَخَمْسمِائَةِ يَوْمٍ ‏,‏ فَصَرَخَ وَقَالَ يَا وَيْلَتِي أَلْقَى الْمَلِيكَ بِأَحَدٍ وَعِشْرِينَ أَلْفَ ذَنْبٍ وَخَمْسِمِائَةِ ذَنْبٍ ‏,‏ كَيْفَ وَفِي كُلِّ يَوْمٍ عَشْرَةُ آلَافٍ ذَنْبٍ ‏,‏ ثُمَّ خَرَّ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ فَإِذَا هُوَ مَيِّتٌ ‏,‏ فَسَمِعُوا قَائِلًا يَقُولُ يَا لَك رَكْضَةٌ إلَى الْفِرْدَوْسِ الْأَعْلَى ‏.‏

قَالَ وَقَدْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ السَّلَفِ رضي الله عنهم يَسْتَوْفِي عَلَى النَّفْسِ الْأَعْمَالَ وَيُكْرِهُهَا ‏,‏ عَلَيْهَا اغْتِنَامًا لِلْعُمْرِ ‏.‏

قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ‏:‏ إنَّ الصَّالِحِينَ كَانَتْ أَنْفُسُهُمْ تُوَاتِيهِمْ عَلَى الْخَيْرِ عَفْوًا ‏,‏ وَإِنَّ أَنْفُسَنَا لَا تَكَادُ تُوَاتِينَا إلَّا عَلَى كُرْهٍ ‏,‏ فَيَنْبَغِي لَنَا أَنْ نُكْرِهَهَا ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَكَانَ عَامِرُ ابْنُ عَبْدِ قَيْسٍ رحمه الله تعالى يُصَلِّي كُلَّ يَوْمٍ أَلْفَ رَكْعَةٍ ‏,‏ وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ قِفْ أُكَلِّمُك ‏,‏ قَالَ أَمْسِكْ الشَّمْسَ ‏.‏

فَهَؤُلَاءِ فُرْسَانُ الْمَيْدَانِ ‏.‏

فَاسْمَعْ يَا مُضَيَّعَ الزَّمَانِ ‏.‏

شِعْرٌ‏:‏ الدَّهْرُ سَاوَمَنِي عُمْرِي فَقُلْت لَهُ لَا بِعْت عُمْرِي بِالدُّنْيَا وَمَا فِيهَا ثُمَّ اشْتَرَاهُ تفاريقا بِلَا ثَمَنٍ تَبَّتْ يَدَا صَفْقَةٍ قَدْ خَابَ شَارِيهَا وَفِي وَصِيَّةِ الْإِمَامِ الْمُوَفِّقِ ابْنِ غِذَاء طَيَّبَ اللَّهُ رُوحَهُ مَا لَفْظُهُ‏:‏ فَاغْتَنِمْ رَحِمَك اللَّهُ حَيَاتَك النَّفِيسَةَ ‏,‏ وَاحْتَفِظْ بِأَوْقَاتِك الْعَزِيزَةِ ‏,‏ وَاعْلَمْ أَنَّ مُدَّةَ حَيَاتِك مَحْدُودَةٌ ‏,‏ وَأَنْفَاسَك مَعْدُودَةٌ ‏,‏ فَكُلُّ نَفَسٍ يَنْقُصُ بِهِ جُزْءٌ مِنْك ‏,‏ وَالْعُمْرُ كُلُّهُ قَصِيرٌ ‏,‏ وَالْبَاقِي مِنْهُ هُوَ الْيَسِيرُ ‏,‏ وَكُلُّ جُزْءٍ مِنْهُ جَوْهَرَةٌ نَفِيسَةٌ لَا عَدْلَ لَهَا ‏,‏ وَلَا خُلْفَ مِنْهَا ‏,‏ فَإِنَّ بِهَذِهِ الْحَيَاةِ الْيَسِيرَةِ خُلُودُ الْأَبَدِ فِي النَّعِيمِ ‏,‏ أَوْ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ ‏,‏ وَإِذَا عَادَلْت هَذِهِ الْحَيَاةَ بِخُلُودِ الْأَبَدِ عَلِمْت أَنَّ كُلَّ نَفَسٍ يَعْدِلُ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ أَلْفِ أَلْفِ عَامٍ فِي نَعِيمٍ لَا خَطَرَ لَهُ أَوْ خِلَافَ ذَلِكَ ‏,‏ وَمَا كَانَ هَكَذَا فَلَا قِيمَةَ لَهُ ‏.‏

فَلَا تُضَيِّعْ جَوَاهِرَ عُمْرِك النَّفِيسَةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ ‏,‏ وَلَا تُذْهِبُهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ ‏,‏ وَاجْتَهِدْ أَنْ لَا يَخْلُوَ نَفَسٌ مِنْ أَنْفَاسِك إلَّا فِي عَمَلِ طَاعَةٍ أَوْ قُرْبَةٍ تَتَقَرَّبُ بِهَا ‏.‏

فَإِنَّك لَوْ كَانَتْ مَعَك جَوْهَرَةٌ مِنْ جَوَاهِرِ الدُّنْيَا لَسَاءَك ذَهَابُهَا فَكَيْفَ تُفَرِّطُ فِي سَاعَاتِك وَأَوْقَاتِك ‏.‏

وَكَيْفَ لَا تَحْزَنُ عَلَى عُمْرِك الذَّاهِبِ بِغَيْرِ عِوَضٍ ‏,‏ انْتَهَى ‏.‏

‏.‏